دعوة عباس لانتخابات المجلس الوطني- تكريس للانقسام وتعميق للمأزق الفلسطيني

المؤلف: د. محسن محمد صالح08.22.2025
دعوة عباس لانتخابات المجلس الوطني- تكريس للانقسام وتعميق للمأزق الفلسطيني

على الرغم من أن إعادة هيكلة المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يمثل السلطة التشريعية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، يشكل مطلبًا وطنيًا فلسطينيًا أساسيًا ومُلِحًا، إلا أن دعوة الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات هذا المجلس قد وُلدت ميتة!

في خطوة أثارت الكثير من الجدل، أصدر عباس قرارًا بتاريخ 19 يوليو/تموز 2025، مستندًا إلى قرار سابق من اللجنة التنفيذية للمنظمة اتُخذ قبل يومين، يتضمن إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية عام 2025، مع تحديد موعد الانتخابات من قِبَل عباس نفسه.

تضمن القرار أن يضم المجلس 350 عضوًا، على أن يكون أغلبهم من الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ذلك، اشترط القرار للعضوية الالتزام ببرنامج منظمة التحرير والتزاماتها الدولية والشرعية الدولية، وهو ما يعني في الواقع اتفاقات أوسلو وكل ما انبثق عنها من استحقاقات، بما في ذلك الاعتراف بـ"إسرائيل"، والتنازل عن معظم أراضي فلسطين التاريخية، ونبذ المقاومة المسلحة والاقتصار على الوسائل السلمية. والأكثر من ذلك، وضع عباس تشكيل اللجنة التحضيرية تحت سيطرته المطلقة، أي هيمنة حركة فتح.

هذا القرار أثار موجة عارمة من الغضب والاستياء لدى الفصائل والقوى الشعبية الفلسطينية، وكذلك لدى الرموز الوطنية والمستقلين، خاصةً فصائل المقاومة التي تعارض بشدة اتفاقات أوسلو. كما أثار القرار حفيظة المعترضين على "عقلية التفرد" التي يتبعها عباس والقيادة الحالية لحركة فتح، والمطالبين بإعادة تنظيم البيت الفلسطيني على أسس تمثيلية حقيقية وعادلة.

تعميق المأزق الفلسطيني

لا يخفى على أحد حجم التحديات الوجودية الخطيرة التي تواجه القضية الفلسطينية في هذه الأيام، وتعرضها لخطر التهميش والإلغاء في ظل تصاعد المشاريع الإسرائيلية لضم الأراضي وتهجير السكان، بالإضافة إلى تجاهل الاحتلال الإسرائيلي لاتفاقات أوسلو وجميع القرارات الدولية ومشاريع التسوية.

ويعلم الجميع أيضًا الحالة المزرية التي آلت إليها منظمة التحرير الفلسطينية، حيث أصبحت أقرب إلى مجرد دائرة من دوائر سلطة رام الله. وتعاني المنظمة من أزمة حقيقية في القيادة، وتدهور في البنى المؤسسية، وانعدام الفاعلية، وأزمة في تفريغ محتواها النضالي، وهيمنة فصيل واحد يحتكر السلطة ويغلق الأبواب أمام أي إصلاح، بالإضافة إلى فقدان الرؤية والبوصلة وإدارة الأولويات، وتهميش دور الفلسطينيين في الخارج، وغيرها الكثير من المشكلات.

ومع ذلك، عمد عباس وفريقه إلى دق مسمار جديد في نعش "المشروع الوطني الفلسطيني" من خلال هذه الدعوة المشبوهة للانتخابات، والتي تبدو أقرب إلى محاولة لإعادة ترتيب سيطرة "البيت الفتحاوي" على منظمة التحرير، وليس إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بأسره. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النقاط التالية:

1- جاءت هذه الدعوة مخالفة لجميع التوافقات الفلسطينية التي وقعتها حركتا فتح وحماس على مدى السنوات العشرين الماضية، بما في ذلك اتفاقات القاهرة في الأعوام 2005، و2011، و2017، و2021، واتفاق الجزائر 2022، ولقاءات موسكو وبكين في الفترة بين عامي 2019 و2024، والتي نصت جميعها على إصلاح أو إعادة بناء منظمة التحرير وتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي، على أسس تشاركية ديمقراطية تضمن تمثيلًا حقيقيًا، وبالانتخاب حيثما أمكن، وبالتوافق عندما يتعذر ذلك، وعبر لجنة تحضيرية موحدة.

كما نصت العديد من التوافقات على تشكيل "إطار قيادي مؤقت" لإدارة المرحلة الانتقالية لحين تشكيل مجلس وطني جديد.

2- تستبعد هذه الدعوة حركتي حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة الرافضة لاتفاقات أوسلو من حق المشاركة والانتخاب، لأنها تشترط الالتزام بتلك الاتفاقات وما يترتب عليها من التزامات مجحفة.

وهذه القوى تمثل تيارًا واسعًا وعريضًا في أوساط الشعب الفلسطيني. كما أن هذا القرار يتعارض بشكل صريح مع الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي يعتبر جميع الفلسطينيين أعضاء طبيعيين في المنظمة، بصرف النظر عن اتجاهاتهم السياسية والأيديولوجية.

3- تستأثر هذه الدعوة بالهيمنة الكاملة على اللجنة التحضيرية، ولا تضمن شراكة حقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة فيها، مما يثير الشكوك حول شفافية الانتخابات ونزاهتها.

4- تتجاهل هذه الدعوة الإطار القيادي المؤقت، وتفرض هيمنة عباس وحركة فتح على الإجراءات، مما يسهل "هندسة النتائج" مسبقًا وتوجيهها نحو ما يخدم مصالحهم.

5- تعمق هذه الدعوة الانقسام الفلسطيني بتجاهل القوى الفاعلة على الأرض، وتعيد إنتاج حالة "مزورة" للإرادة الشعبية الفلسطينية.

6- تعطي هذه الدعوة فرصة مثالية للأعداء والخصوم لاستكمال مخططات تصفية القضية الفلسطينية وشطبها من الوجود.

وإذا كانت قيادة المنظمة تعتزم إعادة إنتاج منظومتها الفاسدة والضعيفة والمستبدة، والمتجاهلة لشعبها، فليس من المستغرب أن تولد هذه الدعوة للانتخابات "ميتة"!

قراءة كارثية للواقع

تعاني القيادة الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية من قراءة كارثية للواقع، وبالتالي فإنها تنفذ سياسات تصب في إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني. إذ نجد أنفسنا أمام قيادة متنفذة تظن واهمة أن لديها متسعًا من الوقت للمناورة والالتفاف على التوافقات الفلسطينية، مع تجاهل تام لخطورة المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية، والإصرار على عقلية التفرد والاستئثار بالسلطة؛ في وقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى استنفار وتوحيد جميع القوى الفلسطينية في الداخل والخارج، وإعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها بشكل قوي وفعال.

هذه القيادة تُشعرنا بأنها ليست فقط خارج الشرعية الحقيقية، بل هي أيضًا خارج البيئة الشعبية وقضاياها وهمومها وأولوياتها، بل وخارج حركة التاريخ نفسه!

إنها قيادة تتهرب من الحصول على شرعيتها من قواعدها الشعبية، وضمن المعادلة الوطنية، وتفضل الاتكاء على دعم خارجي عربي ودولي يساعدها على البقاء في السلطة، بسبب توافقها مع مسارات التسوية المذلة ومحاربتها لخط المقاومة، وابتعادها عن "الإسلام السياسي"، واستعدادها لتقديم المزيد من التنازلات المهينة.

وعلى سبيل المثال:

1- تتجاهل قيادة المنظمة (أي قيادة السلطة وقيادة حركة فتح) أن الاحتلال الإسرائيلي قد تجاوز بالفعل اتفاقات أوسلو، وأن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية تنفذ خطة "الحسم" الهادفة إلى ضم القدس وباقي الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية إلى كانتونات معزولة.

وكان آخر الإجراءات التي اتخذها الكنيست الإسرائيلي هو التصويت في 23 يوليو/تموز 2025 على مشروع قانون يقضي بتطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية؛ تمهيدًا لضمها بشكل كامل، وذلك بأغلبية 71 صوتًا مقابل 13 صوتًا فقط.

ومع ذلك، تواصل قيادة السلطة "التزاماتها" ودورها الوظيفي في خدمة الاحتلال، من خلال ملاحقة المقاومين، والتعاون الأمني الوثيق مع الاحتلال في إخضاع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وتركيعه.

2- تتجاهل قيادة المنظمة الاستحقاقات الكبرى التي فرضتها معركة طوفان الأقصى المباركة، والعدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، وما صاحبه من مجازر بشعة وتدمير للمدارس والمستشفيات والجامعات والمساجد والكنائس والبنى التحتية، وفرض حصار خانق وتجويع متعمد.. وتنشغل هذه القيادة بالمماحكات والمناكفات مع حركة حماس وقوى المقاومة الأخرى.

ومن الأمثلة البائسة على ذلك دعم أجهزتها الأمنية (من خلال بهاء بعلوشة وفايز أبو هنود) لظاهرة مليشيا العميل الخائن ياسر أبو شباب، والتي تسمى "القوات الشعبية" وتعمل تحت إشراف عسكري إسرائيلي مباشر، وتقوم بنهب المساعدات المقدمة لأبناء القطاع المحاصر، وتهاجم قوى المقاومة الباسلة.

وفي الوقت نفسه، لا تنشغل قيادة السلطة بمواجهة الاحتلال الغاشم، وإنما بتقديم نفسها كبديل مقبول للإسرائيليين والأميركان، وتلبية اشتراطاتهم ومعاييرهم ليحل مكان حركة حماس.

3- قامت القيادة الفلسطينية بتشكيل حكومة جديدة لسلطة رام الله برئاسة محمد مصطفى (في 31 مارس/آذار 2024) في خضم معركة طوفان الأقصى، وبشكل منفرد إقصائي، في الوقت الذي كانت فيه الحاجة ماسة إلى التوافق الفلسطيني وتوحيد الصفوف.

وهكذا، فوفقًا لهذه القراءة الكارثية القاصرة على المصلحة الذاتية الضيقة الآنية، تساهم السلطة الفلسطينية في مساعدة الاحتلال الإسرائيلي في حفر قبرها (بل وقبر القضية الفلسطينية بأكملها) بنفسها!

هروب إلى الأمام

يبدو قرار الدعوة لانتخابات المجلس الوطني في جوهره محاولة للهروب من استحقاقات الواقع الفلسطيني، ومن الخريطة الانتخابية التي تعكس الوزن الحقيقي للفصائل والقوى الفلسطينية على الأرض.

فعلى مدى العامين الماضيين، أظهرت استطلاعات الرأي تفوقًا كبيرًا وواضحًا لحركة حماس وتراجعًا ملحوظًا لحركة فتح، مع مطالبة أغلبية فلسطينية ساحقة تتراوح بين 85 و90% باستقالة الرئيس عباس، وتوقع هزيمة ساحقة له أمام أي من مرشحي حركة حماس أو أمام الأسير البطل مروان البرغوثي.

وبالتالي، فإن الإقدام على هذه الخطوة جاء استجابة لترتيبات فتحاوية داخلية بحتة، ولضغوط خارجية مكثفة، وذلك ليتسق تركيب المجلس الجديد واللجنة التنفيذية التي ينتخبها، مع مرحلة ما بعد الرئيس عباس، الذي تجاوز التسعين عامًا (من مواليد فبراير/شباط 1935)، ومع ما قد يترتب على معركة طوفان الأقصى من التزامات، يسعى الأميركان والمطبعون العرب لإيجاد جهة فلسطينية لتنفيذها على أرض الواقع.

ومما يلفت النظر أن الدعوة للانتخابات تعطي ثلثي المقاعد للفلسطينيين في الداخل، أي في الضفة الغربية وقطاع غزة، بخلاف التوافق الفلسطيني السابق على المناصفة بين الداخل والخارج.

وهذا ليس فقط مؤشرًا واضحًا على تهميش دور الفلسطينيين في الخارج، الذين يزيد عددهم عن نصف العدد الكلي للفلسطينيين (بينما يمثل سكان الضفة والقطاع نحو 37% فقط من الشعب الفلسطيني)، وإنما هو أيضًا تكريس لبيئة صناعة القرار الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم؛ وهو الأمر الذي حرصت منظمة التحرير الفلسطينية على تجنبه منذ حرب عام 1967 وحتى اتفاقات أوسلو المشؤومة عام 1993، حيث لم تكن أصوات الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة تحتسب ضمن النصاب القانوني.

أولويات المرحلة

في ضوء المخاطر الوجودية التي تشهدها القضية الفلسطينية في هذه المرحلة الحرجة، فإن مسألة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، بما في ذلك التوافق على تشكيل قيادة مؤقتة تشرف على انتخابات جديدة، وتؤدي إلى تشكيل مجلس وطني جديد على قاعدة الحفاظ على الثوابت الوطنية، أصبحت "واجب الوقت" الذي لا يمكن تأجيله أو تجاهله، ولا يجوز أن تظل مجرد لعبة للمناورة وللتذاكي والابتزاز الرخيص لتحقيق مكاسب فئوية ضيقة.

ولذا، لا بد من تحقيق التوافق الفلسطيني الشامل الذي يقطع الطريق على أي تدخل خارجي فيما يتعلق باليوم التالي لإدارة قطاع غزة، وبتنفيذ برنامج عمل مستعجل لمواجهة المخاطر المتزايدة لتهويد المسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف، ومخاطر الضم والتهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة.

كما أن الوقف الفوري للتنسيق الأمني المهين مع الاحتلال، والتوقف التام عن مطاردة المقاومين الأبطال، والإصرار على الحفاظ على سلاح المقاومة كخيار استراتيجي، وفك الحصار الظالم عن قطاع غزة، وكسر الإرادة الإسرائيلية المتغطرسة من خلال إرادة فلسطينية أقوى وأصلب، كلها من المتطلبات الأساسية لهذه المرحلة الحساسة، ومن استحقاقات إنهاء العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني، ودحر الاحتلال الإسرائيلي الغاشم عن أرضنا المحتلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة